النظرية والتجربة


النظرية والتجربة

 

 

 جاء في معجم روبير بأن النظرية " هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا  أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص". وفي معنى ثان النظرية " بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي". كما جاء في المعجم الفلسفي لأندري لالاند بأن النظرية " هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ". هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي.

أما التجربة في معناها العلمي فهي مجموعة من العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية. وتطرح علاقة النظرية بالتجربة عدة إشكالات إبيستملوجية في مجال المعرفة العلمية الدقيقة، سنثير أهمها في محاور هذا الدرس.

          المحور الأول:    التجربة والتجريب.

               * إشكال المحور:  ما هو دور التجريب في بناء النظرية؟ وهل يعتبر التجريب في معناه التقليدي المقوم الوحيد في تفسير الظواهر الطبيعية أم أن لعنصر الخيال العقلي دور في ذلك؟     

                         1- موقف كلود برنار: 

يرى كلود برنار أن إحاطة العالم بمبادئ المنهج التجريبي، التي من شأنها أن تجعله يصل إلى الحقيقة العلمية، تتطلب منه الالتزام بشرطين أساسيين: الأول يتمثل في توفره على فكرة يعمل على فحصها انطلاقا من وقائع صحيحة ومنظمة، أما الثاني فيتمثل في ضرورة استخدام العالم كل الأدوات التي من شأنها أن تمكنه من ملاحظة الظاهرة المدروسة ملاحظة كاملة وشاملة.

 هكذا يرى كلود برنار أنه على العالم الملاحظ للظواهر أن ينقل بدقة ما هو موجود في الطبيعة، إن عليه أن ينصت إلى الطبيعة، وأن يسجل ما تمليه عليه. من هنا تأتي الملاحظة في بداية المنهج التجريبي، ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها.

  انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة في بداية هذا المنهج لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة.

 فالتجربة إذن هي منطلق بناء النظرية العلمية، وهي المعيار الوحيد لصلاحيتها.

                   2- موقف روني طوم:       

إذا كان التجريب حسب التصور التقليدي هو معيار للتحقق من الفرضية، فإن روني طوم يرى أنه لا يمكن الحديث عن فرضية علمية غير مؤسسة على نظرية سابقة. فكل نظرية تتضمن في نظره كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها، مما يعني أن لعنصر الخيال العقلي دور كبير في التجريب العلمي. هكذا اعتبر روني طوم أنه من الوهم الاعتقاد مع أنصار النزعة التجريبية التقليدية بأن التجربة هي وحدها التي تمكننا من فهم العلاقات السببية بين الظواهر الطبيعية. فالتجريب لا يكفي وحده لفهم الظواهر الطبيعية وأسبابها، بل لا بد من إقحام عنصر الخيال العقلي الذي يعتبر تجربة ذهنية مكملة للتجربة التي تتم بواسطة الأدوات العلمية في المختبر.

هكذا يؤكد روني طوم على التكامل الحاصل بين ما هو واقعي تجريبي من جهة، وما هو عقلي خيالي من جهة أخرى؛ إذ لا يمكن للتجريب العلمي الاستغناء عن التفكير العقلي الذي يعد عملية معقدة ومتشابكة يصعب ضبطها من خلال منهج محدد.

          المحور الثاني:    العقلانية العلمية. 

               *إشكال المحور: ما هي طبيعة المعرفة العلمية المعاصرة؟ وكيف تتحدد علاقة العقل والتجربة داخل هذه المعرفة؟

                  

 

                         1- موقف إنشتين:

يؤكد إنشتين على أن النسق النظري للعلم المعاصر يتكون من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات حرة للعقل البشري. من هنا فالنظرية العلمية تبنى بناءا عقليا خالصا، أما المعطيات التجريبية فهي مطالبة بأن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وتابعة لها.

 هكذا يعتبر إنشتين أن العقل العلمي الأكسيومي بكل ما يتميز به من رمز وتجريد، كفيل بإنشاء النظرية العلمية، وما التجربة إلا المرشد في وضع بعض الفرضيات من جهة، وفي تطبيقها من جهة أخرى. كما يؤكد على الدور الذي أصبح يلعبه العقل الرياضي في الكشف عن النظريات العلمية ابتداءا ودون أية تجارب سابقة. فالبناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تعتبر مفتاحا لفهم الظواهر الطبيعية. وهذا ما يجعل العقل الرياضي هو المبدأ الخلاق في العلم، كما يجعل من العقلانية العلمية المعاصرة عقلانية مبدعة.

                  2- موقف غاستون باشلار: 

يؤكد باشلار على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. تتأسس الفيزياء المعاصرة في نظره على يقين مزدوج: الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناءا عقليا ورياضيا، وهو ما يعني أن الواقع يوجد في قبضة العقل. أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل وبراهينه لا تتم بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. هكذا انتقد باشلار النزعة الاختبارية الساذجة التي اعتقدت أن التجربة هي مصدر بناء النظرية العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية المغلقة التي تصورت أن العقل قادر لوحده على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع. وعلى العكس من ذلك اعتبر باشلار أن بناء المعرفة العلمية المعاصرة يتم في إطار حوار متكامل بين العقل والتجربة. هكذا فالعقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا بل منفتحا على الواقع العلمي الجديد الذي يتناوله. من هنا ينعت باشلار فلسفته بالعقلانية المنفتحة وأيضا المطبقة، والتي تتم داخل وعي غير معزول عن الواقع. لكن الواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناءا نظريا وعقليا.

          المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية.

                *إشكال المحور:  ماهو معيار علمية نظرية ما؟

                        1- موقف بيير تويليي:

إذا كان بيير دوهايم، وهو أحد أنصار النزعة التجريبية الوضعية، يرى بأن غاية النظرية الفيزيائية هو أن تمثل تماما، وبصورة صحيحة، مجموعة من القوانين التجريبية، بحيث يشكل الاتفاق مع التجربة بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة، فإن بيير تويليي يقول بمعيار تعدد الاختبارات كشرط أساسي للقول بعلمية نظرية ما. هكذا لا يمثل في نظره معيار القابلية للتحقق التجريبي المعيار الوحيد والنهائي لعلمية وصلاحية نظرية ما، بل لا بد من خروج النظرية من عزلتها التجريبية بإضافة فروض جديدة ترسم للموضوع الملموس، الذي يعتبر مرجع النظرية، نموذجه النظري المنسجم مع النظرية في كليتها.                                         إن أية تجربة علمية لا تتم بدون مساعدة نظريات أخرى، كما أنه لا توجد تجربة حاسمة، إذ تظل نتائج التحقق التجريبي جزئية وقابلة دائما للمراجعة. لذلك فمعيار علمية النظرية يكمن من جهة في إخضاع النظرية لاختبارات تجريبية متعددة، والعمل على المقارنة بينها، كما يكمن هذا المعيار من جهة أخرى في اختبارات التماسك المنطقي للنظرية ومقارنتها بنظريات علمية أخرى.

                      2- موقف كارل بوبر:

إن معيار علمية النظرية عند كارل بوبر هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب. هكذا يجب على النظرية، إن شاءت أن تكون علمية، أن تكون قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز الثغرات الكامنة فيها. ويرى بوبر أنه يمكن أن نطلق على معيار القابلية للتكذيب أيضا معيار القابلية للاختبار، لأن قابلية النظرية للتكذيب معناه أنه يمكن اختبارها بشكل دائم من أجل تجاوز العيوب الكامنة فيها. وهذا يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها. أما النظرية التي تدعي أنها يقينية وقطعية ولا عيوب فيها، فهي مبدئيا غير قابلة للاختبار.

 

 إن الطابع التركيبي والشمولي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. لذلك اقترح بوبر القابلية للتكذيب معيارا لعلمية نظرية ما، وإن لم تكذب فعلا، أي أن تتضمن في منطوقها إمكانية البحث عن وقائع تجريبية تكذبها.